أحلم الحلم الكبير بأنّني سأغيّر تاريخ الأجيال القادمة، بقدوم طفلي الذي سيصنع جيله ويغيّر الأجيال من بعده.
بدأتْ أشهُر الحَمْل تتقدّم، وبدأتُ أطوف معها في الشّوارع والمنازل أراقب وأراقب. وهكذا بدأتُ أتصوّر صورة الطّفل الذي أحلم به، بدأتُ أرسمه ... فأنا:
لا أريده صاخباً ثائراً لا يميّز أنّني أُمّه ...
ولا أريده خائفاً مكسوراً لا يعرف أن يقول لي لا.
لا أريده أنانيّاً يمسك أشياءه كمصيدة تمسك بفأرها ...
ولا أريده بلا سور بإمكان أيّ أحد أن يأخذ منه ما يريد دون أن يصرخ ويقول لا هذه لي إنّها مميّزة لديّ وأنا أُحبّها.
لا أريده ماشياً فاتحاً ذراعيه منادياً باسمه على الملأ حتّى يعرفه الجميع ويحبّه ...
ولا أريده منحنياً يميّز أصحابه من أصواتهم ومن شكل أحذيتهم.
لا أريده مُهرِّجاً هزَليّاً يرغب بأن يبتسم الجميع من حوله حتّى يشعر بالرِّضا عن نَفْسه ...
ولا أريده كئيباً تعيساً، نَسِيتْ الابتسامة طريقها إلى قلبه ومُحِيَتْ المتعة من قاموسه.
لا أريده بديناً يأكل هارباً من مواجهتي ومن مواجهة العالم ونَفْسه ...
ولا أريده نحيلاً هزيلاً بسبب حزنه الذي كسر لديه الرّغبة في متعة وحاجة خلقها الله فينا.
لا أريده متهوِّراً يركض دون أن يعرف الحدود ودون أن يدرك أنّ هناك خطر ...
ولا أريده متسمّراً في أرض تصرخ من تحته مخيفة إيّاه فكلّ ما حوله خطر.
جاء ذاك الطّفل البديع المُنتظَر. وبدأتُ أُحقِّق الحلم وتابعتُ مسيرة تربيتي ومراقبتي، وتابعت بحثي ودخولي المحلاّت والعيادات والمنازل وأنا أميِّز بين ما أريده وبين ما لا أريده.
إلى أن كَبُر وقال كلمة شرَخَت مجاديف سفينتي، لا بل حطّمتها وجعلتني أغرق.
... أنتِ لا تعرفين من أنا ...
هل تشبهيني يا سيّدتي؟ هل أنت مثلي؟ هل حلمتِ أنّك ستغيّرين التّاريخ وستصنعين جيلاً يغيِّر الأجيال؟
هل أنتِ شَبَهي؟ هل صُدمتي بسقوط حلمك ومدينتك التي بنيتها وأرهقتِ نفسك وحنيتِ ظهرك واضعةً حمولتها عليكِ؟ إن كنتُ أنا وأنتِ متشابهتان فلا يزال هناك أمل.
سأعود معك لكي أُخبرك كيف سأستعيد حلمي، ولكن هذه المرّة لن أدع أولاد العالم يقولون لي ما أريد، وإنّما سأدع طفلي هو الذي يقول لي ويخبرني، وسنحقِّق حلمنا معاً.
لا تُقارِني طفلك بمن حوله، فهو مُميّز ولن يتكّرر ولن يكون هناك أحد مثله. وإن كنتِ تحلمين بأنّه سيغيّر العالم فلا تجعليه يصبح كالعالم.
لا تسمحي لعَينَيكِ أن تُراقبا أطفال العالم، بل اجعليهما يعرفان من هو طفلك من طرفة رِمِش يتكلّم بها. اقرأي طفلك منذ ولادته وتعلّمي لُغته التي ألَّفها هو والتي لن تجديها في أيّ كتاب في العالم.
لا تكوني عملاقاً ينظر إليه طفلك خائفاً أن يدوس عليه. اجعلي الأرض مكاناً تلتقيان به كي تكوني مثله صغيرة، تتكلّم بلغته وتفهم ما لا يفهمه هو عن نَفْسه.
اجعلي الصّمت لُغتك في الأوقات التي يجب أن يموت الصّمت من داخله. وتكلّمي في الأوقات التي يكون فيها الصّمت شَبَحاً يهدِّده بأخذكِ منه.
لا تُجمِّلي ما ليس جميلاً، ولا تُشوِّهي ما شوّهه النّاس في حياتك. لا تدعيه يعيش قصّة عشتيها أنت ولا تجعليه يدفع ثمن وجود لم يختَره هو.
لا تخافي من أن تُخطئي وتضعفي. لا تخافي من أن يرى حزنك وألمَك، غضبك وبكاءك، لكن تكلّمي إليه بلُغة الحقيقة كي يعرف ويفهم ويتعلّم ويلمس أنّ هناك خطأ وهناك أسَف.
لا تكوني صَنَماً. كوني حُرّة كي يستطيع أن يتعلّم الحريّة. لا تسلبيه حقوقه وحُرّيته، فمن حقوقه الرّفض أو القبول، من حقوقه أن يخالفك وألّا يقتنع بما أنت مقتنعة به.
لا تفتحي حديقته وتحطِّمي أسوراها خوفاً من الحدود، فمن دون الحدود ستجعلينه يغرق في أقرب بحيرة، أو يسقط من أقرب جبل فيهوي إلى أسفل الوادي.
لا تسرقي ما لديه خوفاً ممّا لديه، وخوفاً ممّا تخافين أن يكون لديه. دعيه يقول لك من هو وماذا يحبّ وماذا يريد وبماذا يحلم، دون أن يخاف من استخفافك أو قسوتك.
لا تبخلي عليه بالتّأديب والتّهذيب، وكذلك لا تبخلي عليه بالتّشجيع والتّعضيد.
لا تستَنْزِفيه كي تحبّيه. لا تستنسخي صورة من خيالك وتجعليه يكونها بلصقها عليه. لا تسرقي منه نَفْسه كي يحظى بحقّه، حقّه الطّبيعي (حبّك غير المشروط له).
لا تربطيه بسلسلة تمسكينها بيدك كي تبقي أنت الأقوى وتري نَفْسك من خلاله. ولا تتركيه يهرب دون أن يعلم من أنت، ودون أن يدرك أنّك أنت من احتويتِه وستبقي أنت دون أن تتغيّري.
دعيه يستقلّ، وكوني أنت الحائط الذي يستند عليه عندما يُرهَق، حائط مبتسِم مُشجِّع ومُغيِّر يسنده ويعطيه دفعة للأمام.
تكلّمي وتكلّمي وتكلّمي. استمعي وأَصغي وأَنصِتي واجعلي الحوار هو اللغة التي تجمعك معه. ودَعي حبّك يملأه بالحريّة ليكون هو نَفْسه دون خوف من أن يفقدك.
ولا تنسي أنّه ليس ملكك ولن يعيش لكِ. فهو أمانة وضعها خالق الكون بين يديكِ ويوماً ما سيذهب بعيداً عنك، ليعود إليك بين وقتٍ وآخَر ليأخذ حضناً يشحنه بالحُبّ والأمان والقوّة، حضناً يشحنه بكلّ ما يحتاجه ليتابع مسيرة حياته.
لكن دعيني أقول لك يا سيّدتي أنّ حلمك سيتحقّق، ولكن هذا الحلم يحتاجك أنت ويحتاج أباه. فلا طفل من دون أبّ ولا طفل من دون أُمّ.
أنتما معاً تمخُضان لتلِدا ذلك الحلم، وتعملان معاً كي ينمو ويكبر وينطلق ليغيِّر العالم ويُنجِب بدوره أحلاماً أكبر. فاعرِفي لُغته!.
يقول سليمان الحكيم في سِفر الأمثال 22: 6
. وقصدَ الحكيم بهذا أن نربّي الطّفل بحسب شخصيّته وميوله وتطلُّعاته، ليس بحسب ما نريده نحن أن يكون عليه من ميول وتطلُّعات وصفات شخصيّة. لأنّ الطّفل الذي يتربّى على ما يريده أهله سيأتي وقت يتغيّر فيه ويعود إلى شخصيّته الحقيقيّة، وإن كان ذلك في وقت الشّيخوخة. لكنّ الطّفل الذي يتربّى ويعيش بشخصيّته الحقيقيّة، لن يحيد عنها مهما تقدّمتْ به السّنوات. لذلك مسؤوليّة الأهل هي فَهم طبيعة وشخصيّة وميول وصفات ابنهم أو ابنتهم، كي يربّوهم بحسبها لا كما يحبّون هُم.
موضوعات مشابهة: